شهدت المملكة العربية السعودية خلال الأعوام الأخيرة توسعًا كبيرًا في استخدام الوسائط الرقمية، وتناميًا هائلًا في المحتوى المنشور عبر شبكات التواصل الاجتماعي، ومنصّات الفيديو، والتطبيقات التفاعلية. ومع هذا التوسع، برزت إشكاليات قانونية حساسة تتعلق بحدود المسؤولية عن المحتوى، في ظل تداخل ثلاث منظومات نظامية مهمة: نظام الجرائم المعلوماتية، نظام الإعلام المرئي والمسموع، ونظام مكافحة التحرش، إضافة إلى نظام حماية البيانات الشخصية
ويُعد موضوع المسؤولية القانونية عن المحتوى الرقمي من أكثر الموضوعات الشائكة في المملكة، لما يتضمنه من توازن دقيق بين حرية التعبير من جهة، وضرورة حماية النظام العام والآداب العامة والمجتمع من جهة أخرى.
ويهدف هذا المقال إلى تحليل هذا التحدّي القانوني، وبيان حدود المسؤولية، وتحديد أبرز الإشكاليات التي تواجه القضاء وممارسي العمل القانوني.
أولًا: تطور الإطار القانوني للمحتوى الرقمي في السعودية
بدأ تنظيم المحتوى الإلكتروني في السعودية بشكل واضح منذ صدور نظام مكافحة الجرائم المعلوماتية عام 1428هـ، الذي شكّل اللبنة الأولى لتجريم بعض أشكال النشر الضار، مثل التشهير، اختراق الخصوصية، والتحريض الإلكتروني.
ومع تسارع التطور التقني، صدرت أنظمة جديدة توسعت في تنظيم المحتوى، أبرزها:
- نظام الإعلام المرئي والمسموع
ويعالج النظام مسؤولية مقدمي المحتوى والمؤثرين، ويفرض ضرورة الحصول على تراخيص، ويلزمهم بعدم نشر ما يخالف الأنظمة والقيم.
- نظام مكافحة الجرائم المعلوماتية
والذي أضاف مواد جديدة تخص:
- المحتوى التضليلي،
- “التزييف العميق”،
- خطاب الكراهية،
- الأخبار المضللة،
- المحتوى الذي يهدد الأمن الاجتماعي.
- نظام حماية البيانات الشخصية
الذي يجرّم نشر البيانات الخاصة دون إذن، مما يشمل:
– مقاطع الفيديو داخل المنازل،
– بيانات الهوية،
– صور الأطفال،
– الرسائل الخاصة.
- الأنظمة المتعلقة بالمنصات والمؤثرين
والتي أوجبت التسجيل في منصة “موثوق” لمن يتقاضى عوائد مالية من الإعلانات أو يقدم محتوى مؤثرًا.
ثانيًا: الإشكالات القانونية المرتبطة بالمسؤولية عن المحتوى
تواجه المملكة عدة تحديات دقيقة في هذا المجال، من أبرزها:
- تمييز “الرأي” عن “الإساءة“
يتداخل بينهما في كثير من القضايا، مما يضع عبئًا كبيرًا على القضاء في تحديد الخط الفاصل بين:
- النقد المشروع،
- والقدح المحظور.
- تحديد المسؤولية في المحتوى الجماعي أو المشترك
من يتحمل المسؤولية في المقاطع التي تضم أكثر من مشارك؟
هل المحرر؟ المصوّر؟ الناشر؟ أم جميعهم؟
- مساءلة المؤثرين على وسائل التواصل
تسبب ازدياد أعداد المؤثرين في ظهور قضايا جديدة، مثل:
- نشر إعلانات مضللة،
- ترويج منتجات ضارة،
- نشر محتوى يخالف القيم الاجتماعية.
- تضارب الأنظمة في بعض الحالات
مثل الحالات التي ينشر فيها شخص “رأيًا” يدخل في نطاق حرية التعبير، لكنه يُعد في الوقت نفسه تشهيرًا وفق نظام الجرائم المعلوماتية.
ثالثًا: المسؤولية المدنية والجنائية عن المحتوى الرقمي
- المسؤولية الجنائية
وتتضمن العقوبات المنصوص عليها في نظام الجرائم المعلوماتية مثل:
- السجن،
- الغرامة،
- حذف المحتوى،
- مصادرة الأجهزة.
وتطبق هذه المسؤولية في حالات مثل:
- نشر محتوى يخل بالنظام العام،
- التشهير بالأفراد،
- نشر صور خاصة دون إذن،
- نشر محتوى تحريضي.
- المسؤولية المدنية (التعويض)
قد يتحمل الناشر تعويضًا ماليًا إذا تسبب المحتوى في:
- ضرر معنوي (سمعة – مكانة اجتماعية)،
- ضرر تجاري (خسائر مالية)،
- ضرر عائلي أو وظيفي.
وتتجه المحاكم في السنوات الأخيرة إلى تقدير تعويضات أعلى للحالات المتعلقة بالتشهير الإلكتروني نظرًا لاتساع تأثيرها.
رابعًا: دور القضاء السعودي في ضبط المحتوى الرقمي
شهدت المملكة تطورًا كبيرًا في القضاء الرقمي، مع إنشاء دوائر مختصة ورفع قدرات القضاة في التعامل مع الأدلة الإلكترونية.
ومن أبرز المبادئ القضائية الحديثة:
- اعتبار إعادة النشر (ريتويت – مشاركة) مسؤولية مستقلة
حتى لو لم يكن الشخص هو المُنشئ الأصلي للمحتوى.
- رفض “الجهل بالقانون” كعذر
خاصة في قضايا تصوير الأشخاص دون إذن.
- إلزامية مراعاة الخصوصية الرقمية
حتى في الأماكن العامة إذا لم يكن هناك مبرر مشروع للتصوير.
- التوسع في تجريم المحتوى الضار بالأمن والاقتصاد
خصوصًا المحتوى المتعلق بالاحتيال أو التضليل المالي.
خامسًا: التحديات المستقبلية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي
أصبح الذكاء الاصطناعي والمحتوى الاصطناعي يمثلان تحديًا قانونيًا كبيرًا، خصوصًا مع انتشار:
- التزييف العميق (
- المقاطع الصوتية المزيفة،
- الصور المولدة بالذكاء الاصطناعي.
وتدرس المملكة حاليًا صياغة تشريعات خاصة لتنظيم هذا النوع من المحتوى، للحد من الجرائم التي قد تنشأ نتيجة:
- انتحال الشخصيات،
- التشهير الرقمي المتطور،
- نشر أخبار مزيفة ذات طابع سياسي أو أمني،
- إساءة استخدام البيانات الشخصية.
سادسًا: دور المحامين والمكاتب القانونية في إدارة المخاطر
أصبح على مكاتب المحاماة السعودية تطوير خدمات جديدة تتعلق بالمحتوى الرقمي، مثل:
- الاستشارات القانونية للمؤثرين
لحمايتهم من مخالفات الإعلان أو تجاوزات حقوق الملكية.
- إدارة قضايا التشهير الإلكتروني
وهي من أكثر القضايا نموًا في المملكة.
- صياغة سياسات الخصوصية للمؤسسات
بما يتوافق مع نظام حماية البيانات.
- تدريب الأفراد والشركات
على كيفية التعامل مع المحتوى القانوني، وتجنب العقوبات.
سابعًا: الخلاصة
يمكن القول إن موضوع المسؤولية القانونية عن المحتوى الرقمي في السعودية هو أحد أكثر الملفات شمولًا وتعقيدًا، نظرًا لتداخل الأنظمة، وتطور التقنيات، وسرعة انتشار المحتوى.
وفي الوقت ذاته، يبرز حرص المملكة على إنشاء بيئة إلكترونية آمنة ومنظمة تحمي المجتمع دون المساس بحرية التعبير المنضبطة.
وبالتوازي، تتوسع وزارة العدل وهيئة الاتصالات ووزارة الإعلام في تحديث الأنظمة، بما يضمن تحقيق مبدأ:
“حرية مسؤولة – ومحتوى منضبط – ومجتمع محمي“.
